أجمل ما فى الفن هو تحويل المألوف والعادى والبديهى إلى مدهش وطازج وبكر، هذا هو سر الفن، وهذا هو سبب غيرة غير الموهوبين من الفنانين الحقيقيين الموهوبين. استرجعت تلك الحقيقة وأنا أشاهد حلقة «الطبعة الأولى» المعادة التى استضاف فيها الزميل «أحمد المسلمانى» الأديب الراحل الحاضر الغائب «إبراهيم أصلان»، كانت خاتمة تلك الحلقة الممتعة هى خبر استعداد «أصلان» لنشر كتابه «حجرتان وصالة»، مر ما يقرب من ثلاث سنوات على صدور هذا الكتاب البديع الذى أحسست به أكثر، وفهمته أكثر، وأعجبت به أكثر بعد مشاهدتى هذا الحوار الذى تحدث فيه «أصلان» بجاذبية وبساطة وعمق عن مفهومه للفن والقصة القصيرة.

«حجرتان وصالة» متتالية منزلية كما سماها إبراهيم أصلان، الرواية أو المتتالية عن زوج على المعاش وزوجة ربة بيت رحلت وغابت عن الرواية فى منتصفها، والتفاصيل الصغيرة التافهة أو بالأصح التى نراها تافهة والتى تقابل هذين الزوجين، عندما نرى تلك التفاصيل من خلال عدسة زووم «إبراهيم أصلان»، إذا بهذه الرتابة والملل والعادية تتحول إلى قصة فنية مبهرة ومدهشة وصادمة، مثلما تتحول قطع الخشب الخرساء المتناثرة إلى أرابيسك أو أويما تنطق بعظمة الخلق والإبداع الفنى.

قصص وتفاصيل من الممكن أن تمر عليك مرور الكرام، لكنها عند «أصلان» وبعينه الراصدة الذكية ستثير عقلك ووجدانك وتمسك بتلابيبك لتسأل نفسك: كيف فاتتنى هذه التفصيلة؟، الطبق المكسور الذى يخفيه الزوج فى كيس القمامة حتى لا تلومه زوجته المجهدة المنهكة، لا تعرف هل هو خوف عليها أم خوف منها؟، الوحدة القاتلة والصمت المزمن اللذان تكسرهما الزوجة بافتعال حوار يبدأ بـ«هو أنا كنت بأقول إيه إمبارح؟»، ليمتد حبل الحوار خانقاً مفرداته ليسود الصمت أكثر وأكثر، الفراغ يجعل من بطل قصتنا العجوز مراقباً لنفسه متسائلاً: هل ازداد قصراً أم أن ابنه هو الذى استطال بعد بلوغه الثلاثين؟!، هل صارت لديه رِجل أطول من رِجل مما جعله يعرج فى مشيته؟!!، اهتمامات لا يخلقها إلا الفراغ والإحساس باللا جدوى وزحف الشيخوخة والمقامرة مع الموت.

نقار وشجار الفراغ والملل الذى يفتعله الزوج وتكسر به الزوجة رتابة اليوم، صارت تفاهاته هى خبزهما اليومى، لماذا لا تضع العدس الأصفر على الفول؟، لماذا كل جملة من كلامه أصبحت تبدأ بكلمة «أعتقد»؟، لماذا لا يكح أو يقول إحم بدلاً من خضتها عندما تفاجأ به فى المطبخ أو فى الصالة؟، هو يراقبها ليلاً أثناء نومها فى حجرة الأولاد، هل مازالت تتنفس؟، يراقب ارتفاع وانخفاض اللحاف لكى يطمئن، تباغته وتموت أثناء مشاهدته لفيلم أبيض وأسود بعد أن تخدعها رنة تليفون فى الفيلم فتناديه «رد على التليفون» ثم ترحل.

بعد رحيلها يهديه الأولاد براداً كهربياً يصفّر لكى يرحمهم من نسيانه البراد التقليدى على البوتاجاز حتى يحترق، يصرف مكافأة المعاش على طاقم أسنانه حتى يستعيد قدرته على الابتسام وكسر خجله عند فتح فمه، صارت هوايته المفضلة فَرْد الصور القديمة التى تجمعه معها فى بداية زواجهما وتَذكُّر متى وأين التقطت الصورة..حياته كلها اجترار وخوف ورتابة ونميمة.

«حجرتان وصالة» لم تتسع لزوجين واحتلها الصمت، لكنها اتسعت لكل أحلامنا واحتل كل سطر فيها إبداع الفنان إبراهيم أصلان.